بدل أن تقرّب وجهات النظر وتقلّص من النقاط الخلافية، وتفتح باب الحوار والتفاهم على مصراعيه، يبدو أن ما سُمّيت بـ"مبادرة المعارضة الرئاسية"، أو خارطة الطريق التي طرحتها القوى المحسوبة على المعارضة لإنجاز الاستحقاق الرئاسي، لم تنجح سوى في زيادة التعقيدات المحيطة بالاستحقاق المؤجّل منذ تشرين الأول 2022، وهو ما يتجلّى في تصاعد مناخ الانقسام والتشنّج بين مختلف القوى السياسية منذ إطلاقها قبل أيام.
لعلّ خير دليل على ذلك السجال الذي تشهده الأوساط السياسية منذ نهاية الأسبوع الماضي، حول الاجتماع الذي كان مفترضًا بين قوى المعارضة وثنائي "حزب الله" و"حركة أمل" لمناقشة المبادرة، وفي سياق جولة المعارضة على معظم الكتل البرلمانية، وهو اجتماعٌ تفرّع إلى اثنين، واحد مع كتلة "التنمية والتحرير" وآخر مع كتلة "الوفاء للمقاومة"، قبل أن تقدم الكتلتان على تأجيلهما واحدًا تلو الآخر، إلى مواعيد لم تحدَّد أساسًا.
يبرّر "الثنائي" موقفه بالقول إنّ ما قدّمته المعارضة لا يرقى أصلاً إلى مستوى مبادرة، بل هو أقرب إلى "المناورة" التي تهدف إلى رمي كرة المسؤولية لدى الطرف الآخر بكلّ بساطة، ويشير إلى أنّ من يريد تقديم مبادرة يجب أن يوفّر لها فرص النجاح، وهو ما يتطلّب منه مدّ يده إلى الطرف الآخر، أو على الأقلّ تلقّف يده الممدودة، بدل الاستمرار في استفزازه والتصويب عليه، كما يفعل حزب "القوات اللبنانية" بشكل خاص.
لكن، مقابل تبريرات "الثنائي"، ثمّة من يستغرب موقفه، باعتبار أنّ ما يظهر منه هو أنّ الطرف الذي لم يترك مناسبة إلا وطالب فيها بالحوار والتشاور، وأصرّ على انّ اللبنانيين "محكومون" بالجلوس على طاولة واحدة، هو الذي يرفض اليوم الجلوس على هذه الطاولة، بل ثمّة من يذهب أبعد من ذلك، بالقول إنّه بموقفه "الممانع" للحوار عمليًا، كشف "زيف" شعاراته، وثبّت معادلته الحقيقية: "إما تسيرون بمرشحنا، أو لا انتخابات"!.
بالعودة إلى موقف "الثنائي"، فإنّ المحسوبين عليه يؤكدون أنّه ليس بحاجة لشهادة من أحد عن إيمانه وقناعته بالحوار، بدليل أنّ مبادرة رئيس مجلس النواب نبيه بري الحواريّة، سابقة للفراغ الرئاسيّ، وأنّ من عطّلها منذ اليوم الأول هو نفسه الفريق الذي يحاول أن يتّهم غيره بالتعطيل اليوم، بل إنّه "يتباكى" على مجرد اجتماع لا يقدّم ولا يؤخر، في حين أنه من يرفع "الفيتو" في وجه الحوار الحقيقي والمنظّم، الذي يمكن أن يُحدِث خرقًا.
وفيما يقول المحسوبون على "الثنائي" إنّ الأخير لم يلغِ الاجتماع مع المعارضة، بل أجّله بكل بساطة، يضعون موقفه في سياق "الاحتجاج الضمني" على سلوك الفريق الآخر بالتوازي مع طلب الاجتماع، وهو سلوك لا يوحي بأيّ جدّية، بل يترك انطباعًا بأنّه يريد اللقاء من باب رفع العتب ليس إلا، أو ربما لتسجيل النقاط، بدليل أنّ هذا الفريق لم يتوقف عن كيل الاتهامات العشوائية والمجانية لخصومه، على الأقلّ بانتظار انتهاء الاجتماع معه.
ويلفت هؤلاء بصورة خاصة إلى التصريحات المكثّفة للمحسوبين على "القوات اللبنانية"، الذين كانوا عشيّة اللقاء يحمّلون "الثنائي" مسؤولية الفراغ الرئاسي، ويتهمونه بأنه لا يريد الحوار خلافًا لأيّ منطق، وهو ما يؤكد بحسب المحسوبين على "الثنائي"، أنّ الهدف من مبادرة المعارضة لم يكن في الأساس التوصّل إلى أيّ مساحة مشتركة، بل القول إنّها تبادر وتتحرك، وإنّ الآخرين هم الذين لا يتجاوبون معها، عبر ملاقاتها في منتصف الطريق.
وفي حين يشكّك المحسوبون على "الثنائي" بحسن نيّة المعارضة في المبادرة التي أطلقتها، ويلفتون إلى "تناقض" موقفها بين مطالبتها بالحوار وتصويبها على من تودّ الحوار معه، غامزة من قناة رئيس حزب "القوات" سمير جعجع تحديدًا، يؤكد الدائرون في فلك المعارضة على أنّ الأخيرة "موحّدة ومتضامنة"، مشدّدين على أنّ من يجب أن يُسأَل عن "التناقض" هو "الثنائي"، الذي يريد حتى أن يفصّل الحوار على مقاسه، ووفق أهوائه.
يعتبر هؤلاء أنّ رفض "الثنائي" للاجتماع مع المعارضة، باختلاف الذرائع والمبرّرات، هو دليل آخر على أنّ "الثنائي" لا يريد حوارًا حقيقيًا وجدّيًا، وأنّ الحوار الذي يريده ليس سوى "محاولة لفرض" مرشحه للرئاسة على الآخرين، وبالتالي فهو يقدّم "صكّ براءة" للمعارضة، ويؤكد أنّ مخاوفها من الحوار منذ اليوم الأول، لأنّها تدرك أنّ الحوار "بمنطق الممانعة"، ليس "حوارًا من أجل الحوار"، بل له غاياته الخاصة، وربما أجنداته أيضًا.
وفي السياق، تشدّد أوساط المعارضة على أنّ المبادرة التي طرحتها، والتي عطّلها "الثنائي" برفضه التجاوب حتى لجهة الاجتماع مع ممثليها، تؤكد مرّة أخرى أنّ المشكلة الفعلية هي في محور "حزب الله"، فمختلف القوى السياسية تفاعلت إيجابًا مع المبادرة، ولو كان لدى بعضها بعض الملاحظات عليها سواء في الشكل أو المضمون، حتى إنّ اللجنة الدولية الخماسية أشادت بها، أقلّه لناحيتها قدرتها على تحريك الملف، وإخراجه من دائرة الجمود.
وبين رأي المحسوبين على المعارضة والدائرين في فلك "الثنائي"، يبقى الثابت أنّ "العقدة الحقيقية" أبعد من كلّ المناكفات بين الجانبين، علمًا أنّ العارفين يتحدّثون عن "وحدة حال" بين الطرفين في تعطيل الاستحقاق، فـ"الثنائي" يشترط حوارًا لا يراعي فعليًا الهواجس، ويرفض التنازل عن بعض "الشكليات"، في حين أنّ المعارضة تبدو كمن يغلّب مبدأ "النكد والنكايات" على ما عداه، وقد باتت في معركة "شبه شخصية" مع رئيس مجلس النواب نبيه بري.
ولعلّ ما يمكن استنتاجه من كلّ ما سبق، أنّ لا إرادة جدّية بفكّ أسر الاستحقاق الرئاسي، العالق بين الشروط والشروط المضادة، لكن قبل كلّ ذلك بين الرهانات المتناقضة، التي تدفع كلّ فريق للتشبّث بمواقفه، بانتظار نضوج المعطيات التي يعتقد أنّها ستصبّ لصالحه، ليبقى كلّ ما يدور همسًا وعلنًا، وكلّ ما يطرح من مبادرات وغير ذلك، مجرّد تضييع وقت، لعلّ كلمة السر التي يترقبها الجميع تأتي من هنا أو هناك!.